في قلب كل مبنى حديث، وخلف كل سقف جبس بورد  أنيق، تكمن مادة بناء استثنائية أحدثت ثورة في طرق التشييد والتصميم الداخلي، ألا وهي “الجبس بورد”. هذه الألواح، التي يُطلق عليها أيضًا اسم “الجدران الجافة” (Drywall)، لم تعد مجرد بديل عملي وسريع للطرق التقليدية كالمحارة والجبس البلدي، بل أصبحت عنصرًا أساسيًا يمنح المهندسين المعماريين والمصممين حرية إبداعية لا حدود لها. من خلال هذا المقال الشامل، سنغوص في عالم الجبس بورد، مستكشفين تاريخه، مكوناته، أنواعه، ومميزاته التي جعلته الخيار المفضل في المشاريع السكنية والتجارية على حد سواء

جبس بورد

لمحة تاريخية: من المناجم إلى جدران المنازل

تعود قصة استخدام الجبس كمادة بناء إلى آلاف السنين، حيث عرفه المصريون القدماء واستخدموه في تبطين جدران الأهرامات. ومع ذلك، فإن الشكل الحديث لألواح الجبس بورد هو ابتكار يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر. ففي عام 1894، حصل “أوغسطين ساكيت” على براءة اختراع لألواحه المكونة من طبقات متعددة من الورق والجبس. لكن الانطلاقة الحقيقية لهذه الصناعة كانت على يد شركة “United States Gypsum Company” (USG) التي قامت بتحسين المنتج وأطلقته تجاريًا تحت اسم “Sheetrock” في أوائل القرن العشرين.

جبس بورد غرف نوم

في البداية، قوبل هذا المنتج ببعض التردد من قبل البنائين المعتادين على الطرق التقليدية التي تتطلب وقتًا وجهدًا أكبر. لكن مع مرور الوقت، وخصوصًا خلال فترة الطفرة العقارية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة، أثبت الجبس بورد جدارته كحل سريع وفعال واقتصادي، مما أدى إلى انتشاره على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، ليصبح اليوم أحد أكثر مواد البناء استخدامًا.

عملية التصنيع: كيف يتحول الحجر إلى لوح؟

تعتمد صناعة ألواح الجبس بورد على مادة خام أساسية هي صخر الجبس، وهو معدن كبريتات الكالسيوم المائي (CaSO4​⋅2H2​O). تمر عملية التصنيع بعدة مراحل دقيقة لضمان إنتاج ألواح عالية الجودة:

الواح جبس بورد

التعدين والتكسير: يتم استخراج صخور الجبس من المحاجر، ثم يتم نقلها إلى المصنع لتُسحق وتُطحن إلى مسحوق ناعم جدًا.

التكليس (Calcination): يُسخن مسحوق الجبس في أفران ضخمة عند درجات حرارة محددة (حوالي 150 درجة مئوية) للتخلص من جزء من الماء المرتبط به كيميائيًا. هذه العملية تحول كبريتات الكالسيوم ثنائية الماء إلى شبه مائية (CaSO4​⋅21​H2​O)، وهي المادة التي تُعرف باسم “جص باريس”.

الخلط والتشكيل: يُخلط الجبس المُكلسن مع الماء ومواد مضافة أخرى مثل النشا، ومسرعات ومبطئات الشك، ومواد رغوية لتقليل الكثافة. يتم صب هذا الخليط الرائب بين طبقتين من الورق المقوى السميك والمتين (Face and Back Paper) على خط إنتاج متحرك.

التصلب والقطع: بينما يتحرك الشريط المستمر من الألواح على السير الناقل، يبدأ خليط الجبس في التصلب والعودة إلى حالته الأصلية (كبريتات الكالسيوم ثنائية الماء)، ملتحمًا بقوة مع طبقتي الورق. بعد أن يصل اللوح إلى درجة صلابة كافية، يتم قصه آليًا حسب المقاسات القياسية.

التجفيف: تُنقل الألواح المقطوعة إلى أفران تجفيف ضخمة متعددة الطوابق للتخلص من الرطوبة الزائدة. تعتبر هذه المرحلة حاسمة لضمان قوة اللوح واستقراره.

التشطيب والتعبئة: بعد خروجها من أفران التجفيف، تُشذّب حواف الألواح وتُختم، ثم يتم تجميعها وتغليفها تمهيدًا لنقلها إلى مواقع البناء والموزعين.

أنواع جبس بورد: لكل تطبيق لوح متخصص

لم يعد الجبس بورد مجرد لوح عادي، بل تطورت صناعته لتشمل أنواعًا متعددة تخدم أغراضًا وظيفية وبيئية مختلفة، ويمكن تمييزها غالبًا من خلال لون الورق الخارجي:

  • الجبس بورد العادي (Standard Gypsum Board): هو النوع الأكثر شيوعًا واستخدامًا، ويأتي عادةً بوجه أبيض أو رمادي فاتح. يُستخدم في الأسقف والجدران الداخلية في المناطق الجافة التي لا تتطلب مواصفات خاصة. يعتبر خيارًا اقتصاديًا ومثاليًا لغرف المعيشة والنوم والمكاتب.
  • جبس بورد العادى
  • الجبس بورد المقاوم للرطوبة (Moisture-Resistant Gypsum Board): يُعرف باللوح الأخضر، ويتميز بغلاف ورقي معالج بمواد شمعية ومواد أخرى تمنع امتصاص الرطوبة. قلبه الجبسي يحتوي أيضًا على إضافات تحد من نمو العفن والفطريات. هذا النوع مثالي للاستخدام في الأماكن ذات الرطوبة العالية مثل المطابخ، الحمامات، وغرف الغسيل. من المهم ملاحظة أنه مقاوم للرطوبة وليس مضادًا للماء تمامًا، لذا لا يُنصح بتعريضه للماء بشكل مباشر ومستمر.
  • الجبس بورد المقاوم للرطوبة
  • الجبس بورد المقاوم للحريق (Fire-Resistant Gypsum Board – Type X): يُعرف باللوح الأحمر أو الوردي، ويتميز بقلب جبسي أكثر كثافة معزز بألياف زجاجية (فيبر جلاس) ومواد أخرى. هذه الإضافات تزيد من قدرة اللوح على مقاومة الحريق لفترات أطول مقارنة بالنوع العادي. يُستخدم هذا النوع بشكل إلزامي في العديد من التطبيقات التجارية والمباني العامة، مثل جدران الفصل بين الوحدات السكنية، والممرات، وحول الأعمدة الإنشائية، وفي المطابخ التجارية، لتوفير وقت إضافي للإخلاء في حالات الطوارئ.
  • الجبس بورد المقاوم للحريق والرطوبة: يجمع هذا النوع بين خصائص اللوح الأخضر واللوح الأحمر، حيث يوفر مقاومة لكل من الرطوبة والحريق في آن واحد. يُستخدم في التطبيقات التي تتطلب كلا الميزتين، مثل جدران المطابخ والحمامات في المباني التجارية.
  • الجبس بورد المقاوم للحريق
  • الجبس بورد العازل للصوت (Soundproof Gypsum Board): تم تصميم هذا النوع خصيصًا لتقليل انتقال الصوت بين الغرف. يتكون من طبقات متعددة من الجبس ومواد بوليمرية مرنة تعمل على تخميد الاهتزازات الصوتية. يعتبر خيارًا ممتازًا للمسارح المنزلية، استوديوهات التسجيل، المكاتب، وغرف النوم التي تتطلب هدوءًا تامًا.
  • لجبس بورد العازل للصوت

  • الجبس بورد المقاوم للصدمات (Impact-Resistant Gypsum Board): يتميز هذا النوع بقلب جبسي عالي الكثافة وغلاف ورقي وألياف زجاجية شديدة المتانة، مما يجعله قادرًا على تحمل الصدمات والاحتكاك الشديد. يُستخدم في المناطق ذات الحركة المرورية العالية مثل المدارس، المستشفيات، والممرات العامة.

الجبس بورد المقاوم للصدمات

مزايا استخدام  جبس بورد: لماذا يفضله المحترفون؟

يكمن سر شعبية ألواح جبس بورد في مجموعة من المزايا العملية والجمالية التي تقدمها، والتي تتفوق بها على البدائل التقليدية:

  • سرعة التركيب: يمكن تركيب مساحات كبيرة من الجدران والأسقف في وقت قياسي مقارنة بأعمال المحارة التقليدية التي تتطلب مراحل متعددة ووقتًا طويلاً للجفاف.
  • سهولة التشكيل: مرونته العالية تسمح بقصه وتشكيله بسهولة لإنشاء تصميمات ديكورية معقدة، مثل الأسقف المعلقة متعددة المستويات، والأقواس، والمنحنيات، والمكتبات الجدارية.
  • التشطيب المثالي: يوفر سطحًا أملسًا ومستويًا تمامًا، مما يجعله قاعدة مثالية لجميع أنواع التشطيبات النهائية كالدهانات، ورق الجدران، أو حتى الحجر والرخام خفيف الوزن.
  • خفة الوزن: وزن الألواح خفيف نسبيًا مقارنة بالطوب والمحارة، مما يقلل من الأحمال على الهيكل الإنشائي للمبنى، وهي ميزة هامة خصوصًا في المباني الشاهقة والتعديلات الداخلية.
  • العزل الحراري والصوتي: يساهم الجبس بحد ذاته في توفير درجة من العزل الحراري والصوتي. ويمكن تعزيز هذه الخاصية بشكل كبير عن طريق إضافة مواد عازلة (مثل الصوف الصخري أو الألياف الزجاجية) في الفراغ بين الألواح والهيكل المعدني.
  • إخفاء التمديدات: يوفر الفراغ خلف ألواح الجبس بورد مسارًا سهلًا ومخفيًا لتمرير تمديدات الكهرباء، السباكة، التكييف، وأنظمة الشبكات دون الحاجة إلى تكسير في الجدران الخرسانية.
  • التكلفة الاقتصادية: عند الأخذ في الاعتبار سرعة الإنجاز وتوفير العمالة، غالبًا ما يكون استخدام الجبس بورد حلاً أكثر اقتصادية على المدى الطويل.
  • سهولة الصيانة والإصلاح: في حالة حدوث تلف أو ثقوب في الجدار، يمكن إصلاح الجزء المتضرر بسهولة دون الحاجة إلى إعادة تشطيب الجدار بأكمله.

خطوات تركيب جبس بورد : من الهيكل المعدني إلى المعجون

يتطلب تركيب جبس بورد دقة ومهارة لضمان الحصول على نتيجة نهائية متينة وجميلة. تتم عملية التركيب عادةً عبر الخطوات التالية:

  1. تركيب الجبس بورد

 

  1. بناء الهيكل المعدني (الشاسيه): هي الخطوة الأولى والأساسية. يتم بناء إطار من قطاعات معدنية خفيفة من الصاج المجلفن (Studs and Tracks). تُثبت القطاعات الأفقية (Runners) في الأرضية والسقف، ثم تُركب القطاعات الرأسية (Studs) بينها على مسافات قياسية (عادة 40 أو 60 سم). يجب التأكد من أن الهيكل مستوٍ تمامًا ومتين.
  2. قياس وقص الألواح: يتم أخذ مقاسات الجدار أو السقف بدقة، ثم يتم قص ألواح الجبس بورد باستخدام مشرط حاد ومسطرة معدنية. يتم عمل شق في وجه اللوح، ثم يُكسر اللوح على طول هذا الشق، ويُقطع الورق الخلفي.
  3. تثبيت الألواح: تُرفع الألواح وتُثبت على الهيكل المعدني باستخدام براغي خاصة بالجبس بورد (Drywall Screws). يجب أن تخترق البراغي اللوح وتستقر في القطاعات المعدنية. من المهم غرس رأس المسمار قليلًا تحت سطح الورق دون تمزيقه.
  4. معالجة الفواصل (المعجون والشريط): بعد تثبيت جميع الألواح، تأتي مرحلة التشطيب. يتم ملء الفواصل بين الألواح، وزوايا التقاء الجدران، ورؤوس البراغي باستخدام معجون خاص (Joint Compound). يوضع شريط شبكي (Fiberglass Tape) أو ورقي (Paper Tape) فوق الفواصل المعبأة بالمعجون ويُضغط عليه لتفريغ الهواء الزائد، ثم توضع طبقة أخرى من المعجون فوق الشريط.
  1. طريقة تركيب الجبس بورد على الجدران

  2. الصنفرة والتشطيب النهائي: بعد جفاف المعجون تمامًا (عادة ما يتطلب الأمر عدة طبقات للحصول على سطح أملس)، يتم صنفرة المناطق المعالجة باستخدام ورق صنفرة ناعم حتى تصبح مستوية تمامًا مع باقي سطح اللوح. بعد ذلك، يصبح الجدار جاهزًا لطبقة الدهان الأساس (Primer) والتشطيب النهائي.

إمكانيات تصميمية لا حصر لها

لقد حرر جبس بورد عالم الديكور من قيود المواد التقليدية. لم يعد السقف مجرد سطح مستوٍ، بل أصبح لوحة فنية يمكن تشكيلها بتصاميم مذهلة. يمكن استخدامه لإنشاء:

  • الأسقف المعلقة (Dropped Ceilings): لإخفاء التمديدات، تحسين العزل، أو ببساطة لإضافة عمق وجمال للتصميم.
  • بيوت النور (Cove Lighting): من خلال إنشاء تجاويف في الأسقف أو الجدران لوضع شرائط الإضاءة المخفية (LED)، مما يوفر إضاءة غير مباشرة وهادئة.
  • القواطع والجدران الزخرفية: لتقسيم المساحات الكبيرة بطرق إبداعية أو لإنشاء جدران تكون هي نفسها قطعة فنية، مثل مكتبات التلفزيون المدمجة.
  • الأقواس والقباب: يمكن تشكيل ألواح الجبس بورد (خاصة الأنواع المرنة) لإنشاء فتحات مقوسة أو حتى قباب صغيرة تضفي لمسة من الفخامة الكلاسيكية.

الاستدامة والأثر البيئي

في ظل الاهتمام المتزايد بالبناء الأخضر والمستدام، تبرز صناعة جبس بورد بجهودها لتقليل أثرها البيئي. يمكن تصنيع ألواح الجبس بورد من الجبس الصناعي (Synthetic Gypsum)، وهو ناتج ثانوي لعمليات صناعية أخرى مثل محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم، مما يقلل من الحاجة إلى التعدين ويساهم في إعادة تدوير المخلفات الصناعية. كما أن الورق المستخدم في تغليف الألواح غالبًا ما يكون من مواد معاد تدويرها. بالإضافة إلى ذلك، فإن خصائص العزل التي يوفرها الجبس بورد تساهم في تقليل استهلاك الطاقة اللازمة للتدفئة والتبريد.

خاتمة: أكثر من مجرد جدار

لم يعد جبس بورد  مجرد مادة بناء وظيفية، بل هو أداة إبداعية تمكن المصممين من تحقيق رؤاهم وتحويل المساحات العادية إلى أماكن استثنائية. بفضل تنوع أنواعه، وسرعة تركيبه، وقدرته على التكيف مع مختلف المتطلبات الجمالية والوظيفية، أثبت الجبس بورد أنه حجر الزاوية في البناء الحديث. إنه يمثل التوازن المثالي بين الكفاءة، والاقتصاد، والجمال، وسيظل بلا شك الخيار الأول للمشاريع التي تتطلع إلى المستقبل. من جدار بسيط يفصل بين غرفتين إلى سقف معقد يزين ردهة فندق فاخر، يواصل الجبس بورد تشكيل الفراغات التي نعيش ونعمل فيها بهدوء وكفاءة.